الخميس 21 نوفمبر 2024
الايام المصرية
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

زبائنه العُمد وأولاد الأكابر.. عم محسن يعزف بـ "مكواة الرجل" على الجلاليب البلدي

المكواة الرجل
المكواة الرجل

المكواة الرجل .. بين أخاديد من التجاعيد رسمتها سني العمر عبر قسمات وجهه، يتطلع عم محسن بملامح لا تخلو من ملاحة بائدة، إلى دكانه الأثير، ثمرة حياته التي تجاوزت السبعين عامًا، وملتقى قلبه الذي قضي فيه جل أيامه، منذ شب عن الطوق بعمر العاشرة يتلمس خطاه على درب النضج فالتقى هوى قلبه بمصيره؛ إرث "المكواة الرجل" التي حملت عائلته على كاهلها تمريره للرجال من أصلابها منذ قرون.

تنساب أولى خيوط شمس الضحى عبر خِصاص أحد منازل مدينة المنيا بمحافظة المنيا، مستقر عائلة عم محسن وأسرته الصغيرة المكونة من زوجة وكريمتيه اللتين زفهما إلى عش الزوجية واستأثر بعشق أطفالهما بعد ذلك، يزيل عم محسن عن عينيه آثار النوم ويجاهد لانتزاع نفسه من دفء الفراش ليستقبل وجهته المعتادة ليشرع في كي الجلابيب وقطع الأقمشة التي ترسل إليه "وصايا" من القرى والمراكز المجاورة، بداية من التاسعة صباحًا وحتى الثانية ظهرًا، ناظرًا غد قريب يفتح أمامه أبواب الأمل على فرصة عمل أقل مشقة من مكواة الرجل تلائم كهولته.

"المكواة الرجل" مهوى قلب عم محسن

تقبع المكواة المصنوعة بالكامل من الصلب ومزودة بذراع طويلة تشبه المجداف بإحدى الزوايا، تشي بقصص من الماضي يناهز عمرها الذي 200 عامًا، "صنعت خصيصًا لسيدي"، يصف عم محسن كيف تحدت مكواة الرجل الصدأ قرنين تحت وطأة العمل المضني قبل أن تحل محلها المكواة البخار، لكن المكواة نجحت بسربال من الصلب الفلاذي الذي يغطي هيكلها أن تناهز في متانتها أعتى الهياكل الصلدة.

عم محسن

في مساحة لاتتجاوز المترين، يجد عم محسن في دكانه محطًا لهوى شعل قلبه وأحنى هامته، تدب الرطوبة بين أركانه وتزيد بشائر الشتاء بنسائمها المارقة اصطكاك أجزائه، مهددة بنهاية وشيكة لسطحه المقام من قطع الخشب يغطيها ألواح من عوازل الأمطار.

منذ نعومة أظافره وعبر الصبا وحتى شب عن الطوق، جرى حب المكواة الرجل بين أوردة عائلة عن محسن وأنساب بين الحشى فاستقر في القلب حتى غزت خيوط الشيب رأس عم محسن واستقرت به، جُبل على هوى المكواة الرجل حتى مررها لابن شقيقه، ليواجه بالكي ومعه براثن الاندثار، في واحدة من أقدم المهن وأصعبها في كافة ضواحي مصر ومحافظاتها.

مكواة "الجلابية البلدي والجبة والقفطان"

عم محسن

برونقها الصفيّ وتصميمها الخالد في الذاكرة تقع الجلابية الصعيدي، خصوصًا الشتوية المصنوعة من الصوف والقطن الكورودي، على رأس القطع التي لازمها الكي بـ "المكواة الرجل"، منذ قديم الأزل، فتطبع عليها المكواة طابع الوجاهة الذي صاحبها عبر القرون لتخلد في ذاكرة التاريخ وتعكس هوية الصعيدي المصري الأصيل، "المكواة الرجل بتحافظ على جمال الجلابية وبتطبعها حتى بعد الغسيل"، شعار يصلح استخدامه لإعلان تجاري لكنه يمثل حقيقة ملموسة عرفها عم "محسن"، فعشاق الجلابية البلدي من الأعيان والعمد ومرتادي الأزهر الشريف من طلبة العلم والشيوخ ذائقتهم خاصة لايرضيهم سوى الثوب مبسوط الزوايا مفرود الأنحاء.

"لهيب المكواة الرجل ولا راحة البيت"

عم محسن

يوقد ألسنة النيران أسفل مشعل بدائي يتخذ له مكانًا عند مدخل الدكان، قوامه قطعتين من الطوب وحفنة من القش يزجي بها النار كلم خفتت شدتها، يضع المكواة على النار حتى تكتسي الحرارة المطلوبة، وبحنكة أصقلتها السنون يختبر "عم محسن" اللهيب المنبعث عن المكواة بطرف بنصره، وما إن تصل المكواة لدرجة الحرارة المنشودة حتى يرفعها من قبضتها المعزولة بقطعة خشبية ثخينة ليبدأ عند ذلك عزف مقطوعة من الجمال والهندام برجله اليمني على الجلابية أو الجبة، ويمرر بين الحين والآخر قطعة من الصابون على حائل بين الجلابية والمكواة لتتحرك بإنسيابية ودون مشقة منه على القماش.

بين الأمل والبحث عن فرصة.. المستقبل يشاغل عم محسن

مكوجي رجل

تداعب الفرصة المنتظرة أحلام عم محسن ساعيًا نحو سبيل لإيصال صوته إلى المحافظ لمنحه دكان صغير أو كشك لبيع الأطعمة الخفيفة والمشروبات الباردة، "القعدة في البيت بتعجز"، يصيغ تجربته المريرة مع الفترة التي قضاها في المنزل دون عمل دفعه إليها العتب الجسدي ودفعته الحاجة خلالها للعودة إلى نار المكواة الرجل لسد احتياجات أسرته والتكفل بـ "إيجار البيت والدكان".

تم نسخ الرابط